abu alhija المدير العام
عدد الرسائل : 513 العمر : 33 الموقع : الاردن تاريخ التسجيل : 23/11/2007
| موضوع: ابن قتيبة.. الثلاثاء مارس 25, 2008 2:04 pm | |
| ابن قتيبة.. أديب الفقهاء ومحدث الأدباء | (في ذكرى وفاته: 15 من رجب 286هـ) | لما أنشئت بغداد وأصبحت حاضرة الخلافة ومقر الحكم، أقبل الناس على سكناها، وامتد إليها العمران، فغدت في سنوات قليلة واسعة الأرجاء، جميلة البناء، زاهرة بقصورها ومساجدها وحدائقها ومرافقها، وجذبت إليها أهل العلم والفضل وذوي الأدب والمعرفة، يلقون في كنفها كل تقدير وإجلال، ويجدون من خلفائها ووزرائها وأعيانها كل عون وتشجيع، فامتلأت المساجد بحلقات الفقه والحديث واللغة والأدب وعلم الكلام، وازدهرت حلقات الجدل والمناظرة، واحتشد ببغداد أئمة العلم، ونوابغ الأدب، وجهابذة الفقه، وأعلام الحديث، وكبار الشعراء، وعباقرة الموسيقى والغناء، وتحولت بغداد إلى جامعة كبرى تظل هؤلاء جميعًا. وكان ابن قتيبة واحدًا ممن ازدانت بهم حلقات العلم ببغداد.المولد والنشأةلا يُعرف على وجه اليقين المدينة التي وُلد بها أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، فيذهب بعض المؤرخين إلى أنه ولد بالكوفة، في حين يذهب آخرون إلى أن مولده كان ببغداد، لكن الراجح أنه ولد بالكوفة سنة (213هـ=828م)، لكنه لم يُقم بها طويلاً، وانتقل صغيرًا إلى مدينة بغداد؛ حيث نشأ بها وتثقف على علمائها، وكانت تموج بحركة علمية زاهرة، ونشاط ثقافي خصب، فتردد على حلقاتها ولزم علماءها، فأخذ الحديث عن أئمته المشهودين وفي مقدمتهم إسحاق بن راهويه، وكان أحد أئمة الإسلام ومن أصحاب الإمام الشافعي، وله مسند معروف، وإلى جانب ذلك كان من أعلم الناس بتفسير القراءة، وحسبه منزلة أن البخاري ومسلم والترمذي كانوا من تلاميذه ورووا عنه.وأخذ اللغة والنحو والقراءات على أبي حاتم السجستاني، وكان إمامًا كبيرًا ضليعًا في العربية، وعن أبي الفضل الرياشي، وكان عالمًا باللغة والشعر كثير الرواية عن الأصمعي، كما تتلمذ على عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، وحرملة بن يحيى، وأبي الخطاب زياد بن يحيى الحساني، وغيرهم.العمل بالقضاء والتدريسوبعد أن اشتد عود ابن قتيبة، ونهل من المعرفة وأخذ بقسط وافر من علوم اللغة والشرع، اختير قاضيًا لمدينة "الدينور" من بلاد فارس، وكان بها جماعة من العلماء والفقهاء والمحدثين، فاتصل بهم، وتدارس معهم مسائل الفقه والحديث، ثم عاد إلى بغداد، واتصل بأبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير الخليفة المتوكل، وأهدى له كتابه "أدب الكاتب"، وكان يجمع بينهما وشائج من العلم والأدب.استقر ابن قتيبة في بغداد، وأقام حلقة للتدريس، يقرأ كتبه على تلاميذه الذين التفوا حوله، وكانت شهرته قد طبقت الآفاق، ومن تلاميذه: ابنه القاضي أبو جعفر أحمد بن قتيبة، وأبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه، وعبيد الله بن عبد الرحمن السكري، وغيرهم.ثقافة ابن قتيبةكان ابن قتيبة مرآة لثقافة عصره الواسعة، فهو محدث متمكن روى عن أئمة الحديث وحُفّاظه، وله بصر بعلم الكلام والجدل والمناظرة، وكان قد اتجه إلى حلقات المتكلمين في مطلع حياته، وأخذ عنهم، وقد أفاده اطلاعه على آراء المتكلمين في جداله معهم ومقارعتهم الحجة بالحجة، وذلك في معرض دفاعه عن أهل السُّنَّة، وهو مؤرخ عالم بتاريخ العرب وأيامهم، وتاريخ المسلمين وفتوحاتهم وغزواتهم، وضليع فيما يتصل بالفقه وعلوم القرآن، وفوق ذلك أديب لغوي تشهد مؤلفاته على علو كعبه وتميزه في عصرٍ امتلأ بالنوابغ في ميادين اللغة والأدب.وخلاصة القول: إن "ابن قتيبة" كان من أغزر علماء المسلمين إنتاجًا، وأكثرهم تنوعًا فلم يقتصر إنتاجه على فن واحد أو اثنين، بل ضرب بسهم وافر في أكثر ميادين الثقافة العربية والإسلامية، يمده في ذلك ذكاء فطري وموهبة عظيمة، وعزيمة قوية، وهمة عالية، وشغف بالمعرفة ملك عليه نفسه، فانصرف إليه كلية.لم يكن ابن قتيبة محدثًا مثل البخاري ومسلم وأضرابهما من المحدثين العظام ممن يهتمون بالرواية والتصنيف، وإنما كان معنيًا بجانب آخر يحتاج إلى ثقافة عربية واسعة، ووقوف على مناهج المتكلمين وطرائقهم في الجدل والمناظرة، هذا الجانب هو جانب الدفاع عن الحديث، وشرح غريبه، وتأويل مُختلفه، ورد الشبهات عن أهله والذود عنهم؛ ولذا لقّبه ابن تيمية بحجة الأدب المنتصب للدفاع عن أهل الحديث، ويمثل كتابه "تأويل مختلف الحديث" هذا الاتجاه في التأليف؛ حيث وضعه ليوفق بين الأحاديث التي يُدَّعى فيها التناقض والاختلاف، وله كتب لا تزال حبيسة المكتبات تدور حول الحديث، مثل: "غريب الحديث"، و"إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث".وله فيما يتصل بالدراسات القرآنية كتابه المعروف "مشكل القرآن"، تكلم فيه عن العرب وما خصَّهم الله به من العارضة (القدرة على الكلام) وقوة البيان، واتساع المجاز، ووجوه القرآن واللحن والتناقض والاختلاف، والمتشابه من القرآن، والقول في المجاز، والاستعارة، والحذف والاختصار، وتكرار الكلام والزيادة فيه، ومخالفة ظاهر اللفظ معناه، واللفظ الواحد للمعاني المختلفة.وتتجلى في الكتاب ثقافة ابن قتيبة الواسعة، وإلمامه الدقيق بخفايا الأسلوب العربي وأسراره إلى جانب اطلاعه على الكتب السماوية الأخرى، وقد طبع الكتاب بتحقيق السيد أحمد صقر.وله أيضًا كتاب "غريب القرآن" تناول فيه تفسير غريب الألفاظ الواردة في القرآن الكريم، وقد جمع العلامة ابن مطرف الكناني بين هذا الكتاب وكتاب "مشكل القرآن" في كتاب سماه: القرطين، وألّف في الفقه كتاب "الأشربة"، و"الميْسر والقداح".تناول في الكتاب الأول مسألة تحريم الخمر، والدواعي التي حرمت من أجلها، وعرج إلى مصادرها وكيفية صنعها، والأنواع التي تُصنع منها، ثم تعرض لمسألة النبيذ الذي عُرف في عصره، وهو ماء الزبيب وماء التمر دون غليان، وسُمي نبيذًا لأنه كان يتخذ وينبذ، أي يترك، وينتهي ابن قتيبة بعد استعراض لآراء الفقهاء إلى أن التحريم منصب على المسكر من الخمر بأنواعها، وإنما يجب الاحتياط بتجنب القليل مما كثيره مسكر، أو ما يُخشى من إسكاره من منقوع التمر والزبيب ومخلوطه، وإن اختلفت أسماؤه. وقد طبع الكتاب بتحقيق محمد كرد علي سنة (1366 هـ= 1947م).وتناول في الكتاب الآخر مسألة الميسر، بعد أن طُلب إليه ذلك. يقول في المقدمة:"أما بعد فإنك كتبت تعلمني تعلق قلبك بالميسر وكيفيته، والقداح وحظوظها، والمياسرين (المقامرين) وأحوالهم، ومعرفة ما في الميسر من النفع الذي ذكره الله في القرآن"، ولم يقتصر في تناول مسألة تحريم الميسر على الناحية الفقهية، وإنما عرض للموضوع عرضًا لغويًا وتاريخيًا واجتماعيًا. وقد طبع الكتاب بالمطبعة السلفية بتحقيق محب الدين الخطيب سنة ((1342 هـ= 1923م)).وفاة ابن قتيبةقضى ابن قتيبة حياته كلها في خدمة الأدب والدين، والدفاع عن عقيدة الأمة، مستغلاً ثقافته الواسعة وقوة عارضته (قدرته على الكلام) في الذود عن القرآن والحديث؛ ولذا لقي ثناء المعاصرين له وتقديرهم، كما عرف قدره من جاء بعده من علماء الإسلام، فوصفه الذهبي: بأنه من أوعية العلم، وقال عنه السيوطي: "إنه كان رأسًا في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس".وقد لبَّى ابن قتيبة نداء ربه في (15 من رجب 276هـ=13 من نوفمبر 899م) بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال. | |
|