وعد بلفور 1
"حين انفجرت الحرب على العالم بدا مؤكداً أن البناء الصهيوني الصغير سيتحطم وتذروه الرياح".
وهكذا وصف ابرام ليون ساخر الوضع في الحركة الصهيونية في بداية الحرب العالمية الأولى في كتابه "تاريخ اليهود" (الطبعة الخامسة، نيويورك- ص 361).
ولم يكن هذا المؤرخ وحيداً في تقويمه الحركة الصهيونية على هذا النحو فازيا برلين بروفيسور النظرية الاجتماعية والسياسية في جامعة اكسفورد كتب في كتاب حاييم وايزمن ما يلي:
"ستبقى السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى فصلاً جافاً في تاريخ الصهيونية. كثيرون يئسوا، وضايقت الحركة الصهيونية من الجانب الواحد سخرية اليهود الأرثوذكس التي كانت الصهيونية بالنسبة إليهم محاولة كافرة لاستباق المسيح ومن الجانب الثاني معاداة اليهود الأحرار المثقفين والناضجين في الغرب الذين رأوا في الصهيونية محاولة خطرة لإشغال اليهود بشوفينية تسعر اصطناعياً ويمكن أن تسؤ علاقاتهم مع زملائهم المواطنين من العقائد (الدينية) الأخرى" (حاييم وايزمن- حياته بأقلام عديدة- حرره ماير ويزجال وجون كارميخائيل- لندن 1962 ص 29).
لقد افتخر زملاء هرتسل وتلامذته بأن إنجاز الزعيم الصهيوني تلخص في أنه "جعل الصهيونية عاملاً سياسياً تقر به دول العالم (الكبرى) (كتاب ماكس نوردو إلى شعبه- مقدمة بقلم ب. نتنياهو 1941 ص 52) وتبجح ماكس نوردو زميل هرتسل الأقرب في خطابه أمام المؤتمر الصهيوني السادس (بال- 24 آب/ أغسطس 1903) بأن أربع دول هي أعظمها وتسيطر على الكرة الأرضية أعربت عن عطفها إن لم يكن على الشعب اليهودي فعلى الأقل على الحركة الصهيونية، الإمراطورية الألمانية أعربت عن عطفها.. بريطانيا قرنت عطفها بالاستعداد العملي لتساعد الصهيونية.. الحكومة الروسية (القيصرية) أعلنت خططها لمساعدتنا... والولايات المتحدة اتخذت خطوات دبلوماسية توحي بالأمل بأنها ستكون عطوفة حين يحين الوقت (المصدر ذاته ص 142).
ولكن في عشية الحرب العالمية الأولى انشغلت هذه الدول الإمبريالية التي تفاخر نوردو "بعطفها" على الصهيونية (وأكد أن عطفها لم يكن على اليهود)، بمصالحها التوسعية ولم تر مكاناً للصهيونية في إطار تلك المصالح.
ولكن أزمة الصهيونية لم تنجم عن انشغال الدول الإمبريالية عنها فحسب بل نجمت عن انشغال جماهير الطوائف اليهودية عنها أيضاً. وفي هذا الشأن يمكن قبول تقويم "بن هلبرن" الذي كتب: في العقد الذي سبق الحرب العالمية الأولى كانت أيديولوجيات يهودية مختلفة بحلولها للقضية اليهودية، كانت هناك الصهيونية والإقليمية والتحرر المدني والدعوة للفوز بحقوق الأقليات في التركز الإقليمي واللغة والثقافة. (كتابه فكرة الدولة اليهودية ص 157).
ومع أن هلبرن لا يحدد مكانة الصهيونية في هذه الدوامة من الأيديولوجيات إلا أن الوقائع تؤكد أنها كانت أضعفها. وفي هذا الصدد يعترف هوراس ماير كالين في كتابه "الصهيونية والسياسة الدولية": ان الصهيونية في الولايات المتحدة خرجت من تفاهتها بهبوب الحرب عام 1914 فقط وحتى ذلك الوقت كان أنصار المنظمة الصهيونية حفنة. (ص 131)
المنظمة الصهيونية تنقسم إلى قوميات:
أشرنا سابقاً إلى أن المنظمة الصهيونية كانت مسرحاً للتناقضات الإمبريالية وخاصة بين الدولتين الإمبرياليتين بريطانيا وألمانيا. ولاحظنا أن الصهيونيين جوهرياً انقسموا بين هذين المعسكرين، فالصهيونيون الألمان ناصروا إمبراطوريتهم النامية، والصهيونيون البريطانيون ناصروا إمبراطوريتهم الوطيدة.
أما مسألة استخدام الصهيونية في المنافسة بين بريطانيا وفرنسا فقد كان ثانوياً حين صدر الوعد، ولكنه تحول في فترة الصراع بعد الحرب إلى عامل جوهري بعيد الأثر.
ولا جدال في أن استخدام الصهيونية كما ذكر كريستوفر سايكس، لإبعاد اليهود الروس عن البلاشفة كان عاملاً ثانوياً ولكن أهميته إزدادت باشتداد الحاجة إلى مقاومة الشيوعية والاتحاد السوفيتي عامة.
وتتأكد المصلحة العليا البريطانية- بوصفها العامل الحاسم في الوعد-من صيغته. وبحق لاحظ "أحاد هعام" المفكر الصهيوني الكبير أن الوزارة البريطانية صاغت وعدها في نهاية المطاف بدون اهتمام بمقترحات الصهيونيين أو أضداد الصهيونية.
فقد جاء في هذا الوعد الذي اتخذ صورة رسالة من اللورد بلفور وزير خارجية بريطانية إلى اللورد روتشيلد: "ان حكومة جلالته لتنظر بعين الارتياح إلى إنشاء وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي وستبذل أطيب مساعيها لتسهيل بلوغ هذه الغاية. وليكن معلوماً أنه لن يعمل شيء من شأنه أن يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين أو بالحقوق التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر والمركز السياسي الذي حصلوا عليه".
أما الصهيونية البريطانية فقد كانت تطالب بأن يأخذ بيان الحكومة البريطانية شكل اعتراف بحق اليهود التاريخي في فلسطين وبفلسطين وطناً قومياً لليهود (لا وطناً قومياً يهودياً في فلسطين).
كذلك لم تشمل المقترحات الصهيونية اعترافاً بحقوق "غير اليهود" أو بحقوق اليهود في أي بلد آخر الأمر الذي أصر عليه غير الصهيونيين من اليهود.
ومع أن الوقت كان مبكراً، فقد ظهرت في صيغة الوعد نوايا الإمبريالية البريطانية على محاولة مجابهة اليهود "بغير اليهود"! أي العرب وإقامة حكم فرق تسد.
نص وعد بلفور (**)
فيما يلي نص الرسالة التي عرفت فيما بعد باسم وعد بلفور:
وزارة الخارجية
في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1917
عزيزي اللورد روتشيلد
يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:
"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى".
وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح.